فوائد البنوك والربا: لماذا حرمهما الإسلام؟ فهم شامل للحكم والأسباب

اكتب واربح

الربا وفوائد البنوك حرام في الإسلام؟ حكم قاطع وحكمة تشريعية عميقة

هذا السؤال ليس مجرد استفسار أكاديمي، بل هو تحدٍ عملي يواجه ملايين المسلمين حول العالم، ويتطلب فهماً واضحاً ومفصلاً للحكم الشرعي وأدلته وأسبابه. التعامل مع المال جزء أساسي من الحياة، والمسلم مطالب بأن يتأكد من أن معاملاته المالية تتوافق مع مبادئ وقيم دينه الذي يسعى لتحقيق العدل والبركة في كل جوانب الحياة.

يهدف هذا المقال إلى تقديم إجابة شافية ومستندة إلى أدلة الشريعة الإسلامية، مع شرح مبسط ومقنع للحكمة العميقة التي جعلت الربا من أشد المحرمات في الإسلام. سنتناول مفهوم الربا، الأدلة القطعية على تحريمه، العلاقة بينه وبين فوائد البنوك المعاصرة، والأسباب القاهرة التي دفعت الشريعة الإسلامية لوضع هذا الحد الفاصل بين المعاملات المشروعة والمحرمة.

القسم الأول: الربا في الإسلام.. تعريف وحكم قاطع

كلمة "الربا" في اللغة تعني الزيادة والنماء والارتفاع. أما في الاصطلاح الشرعي، فتعني الزيادة المشروطة التي يأخذها أحد طرفي العقد من الطرف الآخر دون مقابل شرعي لهذه الزيادة. وقد عرفت الشريعة الإسلامية الربا وقسمته الفقهاء إلى نوعين رئيسيين:

ربا الفضل: وهو زيادة في أحد العوضين المتجانسين عند البيع الفوري، كبيع صاعين من التمر الجيد بصاع من التمر الأقل جودة مع التقابض الفوري. حرم هذا النوع سداً للذريعة لربا النسيئة.

ربا النسيئة (أو ربا الديون): وهذا هو النوع الأكثر ارتباطاً بقضية فوائد البنوك والقروض. وهو الزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين مقابل التأجيل في سداد الدين. كأن يقرض شخصٌ آخر 1000 جنيه على أن يسددها 1200 جنيه بعد عام. هذه الزيادة (200 جنيه) هي ربا النسيئة.

وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم الربا بنوعيه، وخاصة ربا النسيئة، تحريماً قطعياً لا يقبل الجدل أو التأويل. الأدلة على ذلك متواترة وصريحة من الكتاب والسنة:

 

من القرآن الكريم: يقول الله تعالى في سورة البقرة، في آيات تُعد من آخر ما نزل من القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ1 وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾2 (البقرة: 278-279). هذه الآيات تحمل تهديداً شديداً غير مسبوق للمتعاملين بالربا، حيث تجعلهم في مقام المحاربين لله ولرسوله! وتوضح أن رأس مال الدائن هو حقه الوحيد، وأي زيادة عليه ظلم.   

من السنة النبوية: لعن النبي صلى الله عليه وسلم الربا والمتعاملين به بجميع أطرافهم. عن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه. وقال: هم سواء" (رواه مسلم). هذا يدل على أن الإثم يشمل من يأخذ الربا، ومن يدفعه، ومن يكتب عقده، ومن يشهد عليه، وكل من يشارك في تسهيل هذه المعاملة المحرمة.

هذه النصوص وغيرها لا تترك مجالاً للشك في أن الربا محرم تحريماً قطعياً في الإسلام، وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله مرتكبها بعقاب شديد في الدنيا والآخرة.

 

القسم الثاني: فوائد البنوك.. هل هي الربا المحرم؟

 

بعد أن عرفنا ما هو الربا وحكمه في الإسلام، ننتقل إلى السؤال عن فوائد البنوك المعاصرة. هل هذه الفوائد، سواء كانت الفائدة التي يدفعها البنك للمودع على مدخراته، أو الفائدة التي يأخذها البنك من المقترض على القرض، هي نفسها الربا المحرم؟

جمهور ساحق من علماء الأمة قديماً وحديثاً، ومجامع الفقه الإسلامي المعتبرة، قد أفتوا بأن فوائد البنوك التقليدية هي الربا المحرم في الشريعة الإسلامية.

الأسباب التي استندوا إليها في ذلك واضحة ومباشرة:

انطباق تعريف ربا النسيئة: فوائد البنوك هي ببساطة زيادة مشروطة ومحددة سلفاً تُؤخذ على أصل الدين مقابل التأجيل في السداد. هذا هو التعريف الدقيق لربا النسيئة الذي حرمه الإسلام قطعياً. سواء سميت "فائدة" أو "عمولة" أو أي اسم آخر، فالعبرة بحقيقة العقد ومضمونه، وليس بالأسماء والمصطلحات.

لا مقابل شرعي للزيادة: الفائدة البنكية تؤخذ مقابل مرور الزمن فقط، أو مقابل حاجة المقترض للمال. البنك لا يشارك المقترض في تحمل مخاطر المشروع الذي يموله القرض (في حالة القروض التجارية)، ولا يقدم له سلعة معينة يبيعها له بثمن آجل (كما في المرابحة الإسلامية). هو يقدم له المال كدين، ويسترد هذا المال بزيادة مشروطة ومضمونة، وهذا هو جوهر الربا.

تحقيق الظلم والاستغلال: كما سنفصل لاحقاً، فوائد البنوك التقليدية تؤدي إلى نفس المفاسد التي حرم الربا من أجلها، فهي تقوم على استغلال حاجة المقترض وضمان الربح للدائن (البنك) دون تحمل مخاطر، مما يؤدي إلى تكدس الثروة وتضخم الديون وإلحاق الظلم بالأفراد والمجتمعات.

لا يغير من حقيقة أن فوائد البنوك هي الربا المحرم كون النظام المصرفي أصبح معقداً، أو كون الفائدة تحسب بطرق مختلفة (بسيطة أو مركبة)، أو كونها تختلف باختلاف مدة القرض أو حجمه أو طبيعة المقترض. كل هذه تفاصيل في كيفية تطبيق الربا وأخذه، لكنها لا تنفي كونه رباً.

إذن، الإجابة القاطعة هي: نعم، فوائد البنوك التقليدية (سواء على القروض أو الودائع) هي الربا المحرم في الإسلام.

القسم الثالث: لماذا حرم الربا؟ الحكمة التشريعية من وراء النهي

تحريم الربا ليس مجرد منع لمجرد المنع، بل هو تشريع حكيم له أهداف سامية وغايات نبيلة في بناء مجتمع سليم وعادل ومستقر. فهم هذه الحكمة يزيد المسلم قناعة بضرورة الابتعاد عن هذه المعاملة المحرمة. من أبرز حكم تحريم الربا:

تحقيق العدالة ومنع الظلم والاستغلال: هذا هو السبب الأبرز. الربا يقوم على استغلال حاجة المحتاج للمال. فالمقترض غالباً لا يلجأ إلى القرض إلا لحاجة أو ضرورة، ويجد نفسه مرغماً على دفع زيادة على أصل الدين لمجرد حصوله على المال أو تأجيل السداد. الدائن هنا يستغل حاجة المدين ليحقق لنفسه ربحاً مضموناً لا مقابل له سوى مرور الزمن. الآية الكريمة ﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ تلخص هذا المبدأ: لا يجوز للدائن أن يظلم المدين بأخذ الزيادة، ولا يجوز للمدين أن يظلم الدائن بإنكار أصل المال.

محاربة الكسل وتشجيع العمل والإنتاج الحقيقي: الربا يجعل المال ينمو بذاته، "يولد المال مالاً" كما يقال، دون حاجة لبذل جهد أو تحمل مخاطرة حقيقية في عمل منتج. هذا يدفع أصحاب رؤوس الأموال إلى اكتناز الأموال وإقراضها بالفائدة المضمونة بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية حقيقية (زراعة، صناعة، تجارة، خدمات) توفر فرص عمل وتفيد المجتمع. الإسلام يشجع على الربح الناتج عن العمل والجهد والمخاطرة (كالبيع والمشاركة والمضاربة)، ويحرم الربح الناتج عن مجرد المال. ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275).

تجنب التضخم والأزمات الاقتصادية: الأنظمة المالية القائمة على الربا تميل إلى توليد التضخم (زيادة الأسعار) وتراكم الديون بشكل غير مستدام، مما يؤدي إلى فقاعات اقتصادية وأزمات مالية دورية مدمرة للأفراد والمجتمعات والاقتصادات الوطنية والعالمية. الفائدة المركبة تزيد عبء الديون بشكل كبير مع مرور الوقت.

تعزيز روح التعاون والتكافل الاجتماعي: في مقابل تحريم الربا الذي يمثل قمة الأنانية والاستغلال، حث الإسلام على القرض الحسن، وهو إقراض المال بدون زيادة لوجه الله تعالى ابتغاء الأجر والمثوبة. هذا يعزز روابط الأخوة والتعاون والتراحم بين المسلمين، ويجعل المجتمع جسداً واحداً يتداعى أفراده لبعضهم البعض.

الفساد الأخلاقي وتأثيره على الفرد والمجتمع: التعامل بالربا يغرس في النفس الجشع والطمع والأنانية، ويضعف الوازع الديني، ويهدم قيم التعاون والإيثار. المال المكتسب بالربا غالباً ما تنزع منه البركة، ويؤثر سلباً على حياة الفرد وأسرته والمجتمع ككل.

هذه الحكمة العميقة تظهر أن تحريم الربا ليس مجرد حكم تعبدي لا نفقه معناه، بل هو جزء من نظام اقتصادي واجتماعي أخلاقي متكامل يهدف إلى تحقيق السعادة والبركة والعدل للإنسانية جمعاء.

القسم الرابع: هل من بدائل مشروعة؟

قد يتبادر إلى ذهن البعض سؤال: إذا كانت البنوك التقليدية وفوائدها محرمة، فكيف يمكن تلبية الحاجات المالية في عالم يعتمد عليها؟ لحسن الحظ، لم تترك الشريعة الإسلامية الناس في حيرة، بل قدمت حلولاً وبدائل مشروعة للتمويل والاستثمار تتجنب الوقوع في الربا.

القرض الحسن: يبقى هذا هو الأصل في الإقراض بين الأفراد والمؤسسات الخيرية لمن يحتاج المال بدون مقابل.

المؤسسات المالية الإسلامية: تطور نظام المصرفية الإسلامية ليقدم بدائل شرعية للقروض الربوية والودائع الربوية، تعتمد على عقود البيع (مثل المرابحة)، والإجارة (التأجير المنتهي بالتمليك)، والمشاركة في الربح والخسارة (مثل المضاربة والمشاركة المتناقصة)، وغيرها من العقود التي تتوافق مع الشريعة وتتجنب الربا. فبدلاً من قرض بفائدة لشراء سيارة، يتم بيع السيارة لك بالمرابحة. وبدلاً من وديعة بفائدة ثابتة، يتم استثمار أموالك في مشاريع حلال والمشاركة في أرباحها.

الاستثمار الحلال المباشر: استثمار المال مباشرة في مشاريع تجارية أو صناعية أو زراعية حلال، أو شراء أسهم في شركات لا تتعامل بالربا وتزاول أنشطة مشروعة.

البدائل موجودة لمن يبحث عنها ويحرص على التزام شرع الله. قد تتطلب بعض الجهد في البحث والفهم، وقد لا تكون متاحة بنفس سهولة البنوك التقليدية في كل مكان، لكن الالتزام بالشرع يستحق هذا الجهد.

القسم الخامس: معالجة بعض الشبهات واللبس

قد يثار بعض اللبس أو الشبهات حول مسألة الربا وفوائد البنوك، منها:

"الفائدة قليلة والربا كان في الجاهلية أضعافاً مضاعفة": الرد على ذلك أن تحريم الربا عام يشمل القليل والكثير. الآية تقول ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ سواء كان قليلاً أو كثيراً. الربا في الجاهلية كان يصل إلى تضاعف الدين، وهذا يجعل حرمته أشد وضرره أكبر، لكن أصل الزيادة محرم حتى لو كانت قليلة.

"الاقتصاد الحديث لا يمكن أن يقوم بدون فوائد بنكية": هذا ادعاء غير صحيح. لقد أثبتت تجربة المصرفية الإسلامية على مدى عقود أنها يمكن أن تقدم نظاماً مالياً ناجحاً وفعالاً ومستقراً يقوم على أسس غير ربوية، ويعتمد على المشاركة في المخاطر والأرباح.

"الضرورة تبيح المحظور": نعم، الضرورة القصوى التي يترتب عليها هلاك النفس أو طرف منها أو الوقوع في مشقة عظيمة لا تحتمل، قد تبيح المحظور بقدرها. ولكن هذا لا يعني التوسع في التعامل بالربا لكل حاجة أو ترفيه. شراء منزل للعيش فيه قد يعتبر حاجة، ولكن هل وصل إلى حد الضرورة التي لا بديل لها إطلاقاً سوى القرض الربوي؟ هذا يتطلب استفتاءً خاصاً من أهل العلم الموثوقين بعد عرض كل البدائل المتاحة وظروف الشخص بدقة. شراء سيارة فارهة أو السفر للسياحة أو تمويل مشروع له بدائل مشروعة لا يعتبر من الضرورات المبيحة للربا.

خاتمة المقال:

في الختام، فإن قضية الربا وفوائد البنوك في الإسلام ليست قضية خلافية في أصل الحكم. الأدلة من القرآن والسنة قاطعة وصريحة في تحريم الربا بجميع أنواعه، بما في ذلك فوائد البنوك التقليدية التي تمثل ربا النسيئة. هذا التحريم ليس مجرد حكم تعبدي غايته الاختبار، بل هو تشريع حكيم يهدف إلى تحقيق العدل والبركة والاستقرار في المجتمع، ومنع الظلم والاستغلال، وتشجيع العمل المنتج.

على المسلم الذي يحرص على دينه ودنياه أن يجتنب الربا بكل صوره، وأن يسعى جاهداً للتعامل في المعاملات المالية المشروعة، سواء من خلال القرض الحسن، أو المؤسسات المالية الإسلامية، أو الاستثمارات المباشرة الحلال. قد يتطلب هذا بعض البحث والجهد والصبر، ولكنه ثمن يسير مقارنة بحرمة الربا ووعيده الشديد، والبركة التي يجدها المسلم في ماله الحلال.

ليكن هدفنا دائماً الكسب الطيب والإنفاق الطيب، وأن نتحرى الحلال في كل معاملاتنا، وأن نثق بأن الله تعالى قد جعل لنا مخرجاً من كل ضيق وبديلاً عن كل محرم لمن اتقاه. ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2-3).

أسأل الله أن يرزقنا الحلال ويبارك لنا فيه، وأن يجنبنا الربا وكل ما يسخطه، إنه ولي ذلك والقادر عليه

استمتعت بهذه المقالة؟ ابق على اطلاع من خلال الانضمام إلى نشرتنا الإخبارية!

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول لنشر تعليق.

مقالات ذات صلة