أقدم لعبة في التاريخ

اكتب واربح

إن البحث عن "أول لعبة" يشبه التنقيب في أعماق التاريخ السحيق، حيث الأدلة شحيحة والتفسيرات متعددة. لا يوجد سجل واحد قاطع يحمل اسم "اللعبة رقم واحد"، فالمواد التي صُنعت منها الألعاب الأولى (كالخشب أو النباتات) غالبًا ما تحللت بفعل الزمن. ومع ذلك، ترك لنا الأجداد بعض الآثار المذهلة، قطعًا أثرية ونقوشًا تهمس لنا بحكايات عن تسليتهم ومنافساتهم. في هذا المقال، سننطلق في رحلة استكشافية مثيرة، نتعقب فيها خيوط الأدلة الأثرية والتاريخية، لنكشف عن أبرز المرشحين للقب "أقدم لعبة في التاريخ"، ونغوص في عالم الألعاب عند الحضارات القديمة، ونفهم لماذا كان اللعب، ولا يزال، جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

قبل أن نغوص في البحث عن الأقدم، من المهم أن نتفق على المقصود بكلمة "لعبة". بشكل عام، تتميز اللعبة بـ:

قواعد محددة: هناك طريقة متفق عليها للعب.

هدف واضح: يسعى اللاعبون لتحقيقه (الفوز، الوصول لنقطة معينة، جمع عناصر).

عنصر الترفيه والمرح: اللعب غالبًا ما يكون نشاطًا ممتعًا وغير إلزامي.

التنافس أو التحدي: سواء ضد لاعبين آخرين أو ضد الحظ أو ضد نظام اللعبة نفسه.

أدوات مادية (غالبًا): لوح، قطع، نرد، بطاقات، إلخ. (وإن كانت بعض الألعاب لا تحتاجها).

عندما نبحث عن "أول لعبة"، فنحن غالبًا ما نبحث عن أقدم دليل أثري يجسد هذه العناصر، خاصة الألعاب اللوحية التي تترك آثارًا مادية أكثر ديمومة.

التحديات في تحديد "الأولى"

ندرة الأدلة: المواد العضوية تتحلل، والسجلات المكتوبة عن الأنشطة الترفيهية لم تكن أولوية في العصور المبكرة.

صعوبة التفسير: هل قطعة أثرية ذات ثقوب كانت لعبة، أم أداة حساب، أم شيئًا ذا طابع ديني؟ التفسير يعتمد على السياق الذي وُجدت فيه.

الانتشار والتطور: قد تنشأ لعبة في مكان ما وتنتشر وتتغير، مما يجعل تتبع أصلها الدقيق صعبًا.

المرشحون الأبرز للقب "أقدم لعبة في التاريخ"

رغم التحديات، قدم لنا علم الآثار مرشحين بارزين لهذا اللقب، يأتي على رأسهم اثنان من العمالقة:

1. لعبة السينيت (Senet) - مصر القديمة:

تُعتبر "السينيت" واحدة من أقوى المرشحين، إن لم تكن الأقوى. تعود أقدم الأدلة عليها إلى حوالي 3100 قبل الميلاد، حيث وُجدت رسوم تشبه لوح السينيت في مقابر تعود للأسرة المصرية الأولى وفي عصر ما قبل الأسرات.

 

شكل اللعبة: تتكون من لوح مستطيل يحتوي على 30 مربعًا مرتبة في 3 صفوف، كل صف به 10 مربعات. كان لكل لاعب مجموعة من القطع (غالبًا 5 أو 7 قطع مميزة بالشكل أو اللون).

طريقة اللعب (المُستنتجة): لا توجد لدينا مخطوطة تشرح قواعد السينيت بالتفصيل، لكن العلماء استنتجوا طريقة اللعب بناءً على الرسوم والنقوش والألواح المكتشفة (مثل تلك التي وُجدت في مقبرة توت عنخ آمون). يُعتقد أن اللاعبين كانوا يلقون عيدانًا أو عظامًا مفلطحة (تعمل كالنرد) لتحديد عدد المربعات التي يمكن لقطعهم التحرك خلالها على المسار المتعرج للوح.

الهدف: الهدف على الأرجح كان إيصال جميع قطع اللاعب إلى نهاية اللوح وإخراجها منه أولاً.

الأهمية الثقافية والدينية: لم تكن السينيت مجرد تسلية؛ بل اكتسبت بعدًا دينيًا ورمزيًا عميقًا مع مرور الوقت. ارتبطت اللعبة برحلة الروح في العالم الآخر (الدوات). بعض المربعات على اللوح كانت تحمل رموزًا خاصة تمثل عقبات أو مساعدات في هذه الرحلة الروحية، مثل علامة "عنخ" (الحياة) أو علامة "الماء". لعب السينيت كان يمكن أن يمثل اجتياز المتوفى للمخاطر وصولًا إلى الحياة الأبدية. لقد لعبها الفراعنة والنبلاء والعامة على حد سواء، واستمرت شعبيتها لأكثر من 2000 عام.

2. اللعبة الملكية من أور (The Royal Game of Ur) - بلاد الرافدين:

منافس قوي آخر يأتي من حضارة بلاد الرافدين (سومر تحديدًا). اكتشف عالم الآثار البريطاني السير ليونارد وولي عدة ألواح لهذه اللعبة في المقابر الملكية بمدينة أور الأثرية (جنوب العراق حاليًا)، ويعود تاريخها إلى حوالي 2600-2400 قبل الميلاد.

 

شكل اللعبة: اللوح له شكل مميز، غالبًا ما يكون مزخرفًا بشكل فني، ويتكون من مسارين من المربعات يتصلان في المنتصف. يتكون كل مسار من مربعات لها وظائف مختلفة، وبعضها مزين برسومات أو نقوش (مثل الوريدات).

طريقة اللعب: استخدم اللاعبون قطعًا مميزة (مجموعتين، كل مجموعة 7 قطع عادةً) ونردًا رباعي الأوجه (يشبه الهرم الصغير). الهدف كان إدخال جميع قطع اللاعب إلى اللوح، وتحريكها عبر المسار المحدد، وإخراجها من الطرف الآخر قبل الخصم. المربعات المزينة بالوريدات كانت غالبًا "مربعات آمنة" أو تمنح اللاعب دورًا إضافيًا.

الأهمية الثقافية: وجدت هذه اللعبة في مقابر الأثرياء والملوك، مما يدل على مكانتها الرفيعة. مثل السينيت، يُعتقد أنها كانت أكثر من مجرد تسلية، وربما حملت دلالات تتعلق بالقدر أو المستقبل. المثير للاهتمام هو اكتشاف لوح طيني لاحق (يعود للقرن الثاني قبل الميلاد) في بابل، نقشه عالم يُدعى إيتي مردوخ بالاتو، ويُعتقد أنه يحتوي على أقدم قواعد مكتوبة معروفة للعبة لوحية، وهي قواعد اللعبة الملكية من أور! قام الدكتور إيرفينغ فينكل من المتحف البريطاني بفك رموز هذا اللوح وتقديم فهم أعمق لكيفية لعبها.

أيهما الأقدم حقًا؟ السينيت أم لعبة أور؟

 

الأدلة الأثرية الحالية (الرسوم المبكرة) تميل إلى ترجيح كفة السينيت كأقدم لعبة لوحية معروفة لدينا حتى الآن، حيث تسبق أقدم ألواح لعبة أور المكتشفة ببضع مئات من السنين. ومع ذلك، كلا اللعبتين تمثلان مراحل مبكرة ومذهلة في تطور الألعاب المنظمة.

 

مرشحون آخرون وأشكال أقدم من اللعب:

 

ألعاب الحصى (Mancala Family): مجموعة كبيرة ومنتشرة عالميًا من ألعاب "العد والالتقاط". تتضمن حفرًا أو صفوفًا من الثقوب وقطعًا صغيرة (حصى، بذور، قواقع). يصعب تحديد تاريخ نشأتها بدقة لانتشارها الواسع واستخدام مواد بسيطة، لكن يُعتقد أن جذورها قديمة جدًا، ربما تعود لآلاف السنين في أفريقيا أو الشرق الأوسط، وقد تكون أقدم من الألعاب اللوحية المعقدة.

النرد (Dice): اكتُشفت قطع تشبه النرد مصنوعة من العظام أو الحجارة في مواقع أثرية قديمة جدًا، تسبق حتى ألواح السينيت ولعبة أور. هذا يشير إلى أن ألعاب الحظ البسيطة التي تعتمد على رمي هذه الأدوات قد تكون أقدم من الألعاب اللوحية ذات القواعد المعقدة.

ألعاب بدنية ورياضية: لا شك أن أشكال اللعب التي تعتمد على الجري، القفز، المصارعة، أو استخدام العصي والكرات البدائية كانت موجودة منذ فجر البشرية، لكنها بطبيعتها لا تترك آثارًا أثرية واضحة مثل الألعاب اللوحية.

تطور الألعاب عبر العصور:

 

منذ السينيت ولعبة أور، لم تتوقف رحلة الألعاب. تطورت الألعاب اللوحية، وظهرت ألعاب جديدة مثل "الكلاب وبنات آوى" (مصر) و"باتشي Vaikuntapali " (الهند، والتي يُعتقد أنها أصل لعبة السلم والثعبان)، والشطرنج (الذي يُعتقد أن أصوله هندية باسم "شاطورنجا"). ثم جاءت ألعاب الورق، وألعاب الطاولة الحديثة، وصولًا إلى الثورة الرقمية وألعاب الفيديو التي تملأ عالمنا اليوم.

 

لكن اللافت للنظر هو استمرارية بعض المبادئ الأساسية: الحاجة إلى قواعد، هدف، تحدي، استراتيجية، حظ، وتفاعل اجتماعي.

 

لماذا لعب أجدادنا؟ ولماذا نلعب نحن؟

 

لم يكن اللعب مجرد مضيعة للوقت في العصور القديمة، بل أدى وظائف مهمة:

 

تنمية المهارات: الألعاب تطور التفكير الاستراتيجي، التخطيط، حل المشكلات، والمهارات الحسابية (كما في ألعاب مانكالا).

التفاعل الاجتماعي: كانت الألعاب وسيلة للتقارب بين الأفراد والعائلات، وتعزيز الروابط الاجتماعية.

الترفيه والاسترخاء: توفير متنفس من ضغوط الحياة اليومية والعمل الشاق.

التعليم والترميز الثقافي: نقل القيم، الأساطير (كما في البعد الديني للسينيت)، والمفاهيم الاجتماعية للأجيال الجديدة.

الطقوس والدين: ارتبطت بعض الألعاب، كما رأينا، بالمعتقدات الدينية ومفاهيم الحياة والموت والمصير.

وهذه الوظائف لا تزال قائمة إلى حد كبير في ألعابنا الحديثة، وإن اختلفت الأشكال والأدوات.

 

خاتمة: اللعب.. غريزة خالدة

 

إذًا، ما هي أول لعبة في التاريخ؟ الإجابة الدقيقة تظل محاطة ببعض الغموض، وتعتمد على تعريفنا لكلمة "لعبة". إذا كنا نبحث عن أقدم لعبة لوحية ذات قواعد منظمة ولها أدلة أثرية ملموسة، فإن السينيت المصرية تبدو الأوفر حظًا بهذا اللقب حاليًا، تليها اللعبة الملكية من أور السومرية بفترة وجيزة.

 

لكن الأهم من تحديد "الأولى" هو إدراك أن اللعب بحد ذاته هو نشاط إنساني أصيل وعميق الجذور، يمتد إلى ما هو أبعد من هذه الألواح الأثرية. إنه جزء لا يتجزأ من هويتنا، يعكس ثقافاتنا، ينمي عقولنا، ويربطنا ببعضنا البعض عبر آلاف السنين. من نقوش الفراعنة وهم يلعبون السينيت، إلى أطفال اليوم وهم يلهون بألعاب الفيديو، تستمر حكاية اللعب، مؤكدةً أنها واحدة من أقدم وأبقى اللغات التي تتحدثها البشرية

استمتعت بهذه المقالة؟ ابق على اطلاع من خلال الانضمام إلى نشرتنا الإخبارية!

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول لنشر تعليق.

مقالات ذات صلة